فاصل فني.. رشيد طه مناضل حمل هموم “العباد الغافلين”
في خضم ثورة التحرير الجزائرية عام 1958، ووسط اضطرابات وعمليات عسكرية من فرنسا ضد جبهة التحرير، ولد رشيد طه ونما كطفل فى بلده الجزائر.. قبل أن يهاجر مع أسرته لفرنسا فى سن 10 سنوات لتبدأ بعدها قصة يا الرايح وين مسافر.. والمنفي وغيرها من روائع.
الحياة في فرنسا لم تكن وردية .. والد رشيد كان يعمل في مصنع نسيج نصف عدد ساعات اليوم تقريباً كي يكفل أسرته ويحقق لهم أدنى درجات المعيشة الأدمية.
رشيد نفسه من سن 15 سنة بدأ يبحث عن عمل يساعد به الأسرة .. واتنقل ما بين مصانع الطوب و الحانات والمطاعم وقضى أيام مرهقة وليالٍ صعبة، لكن كانت معه رفيقة تهون عليه ساعات العمل دائما “الموسيقى”.
رشيد كان مهووساً بالفن وخصوصاً الموسيقى، وكانت لديه قدرة عجيبة على استغلال كل أداة أو شئ ما يصلح لإصدار صوت أو نغمات.
جوار المزيكا، رشيد كان دايمًا يفكر فى المشاكل التي تواجه المهاجرين العرب فى بلد مثل فرنسا .. مشاكل مثل الاغتراب والتهميش والعنصرية والفقر، و أحيانا كتيرة الاضطهاد. لدرجة أنه أول مرة فكر يغنى كان في حانة صغيرة، وعندها الناس قاموا وطردوه وهتفوا ضده بـ “العربي النذل”، هكذا رأوا لا أن العربي لا يمكنه التحول الى بطل لسهرتهم البائسة.
بطاقة إقامة
موقف الطرد من الحانة قد نعتبره هو بداية الخيط الذي دفع برشيد في أواخر السبعينات نحو تأسيس فرقته “بطاقة إقامة”.
الاسم معبر بدرجة كافية لفرقة أول نشاطاتها كانت أغاني تندد بقرارات وزير الداخلية في فرنسا، الذي حط من شأن المهاجرين وعمل على إلحاق أكبر ضرر بهم.
مع مرور الوقت وبعد إنتشار و نجاح نسبى لفرقة رشيد طه في فرنسا، قرر إستدعاء لون من ألوان الموسيقى الشعبية الجزائرية.. نوع خاص جدًا من المزيكا الشعبية فى بلد المليون شهيد؛ ألا و هو الراى Rai.
رشيد حاول مزج الراى بموسيقى الروك الغربية.. بل إنه طعّم كل هذا بأغاني لكوكب الشرق أم كلثوم التي كان أحد عشاقها.. لكن التجربة في البداية لم تنجح، و كانت هناك تحفظات كتيرة عليها.
في فترة تسعينات القرن الـ 20، قرر رشيد طه إنه يترك فرقته ورحلته الغنائية منفردًا و إنتاج ألبومات خاصة به.
ومع إنتاج أول البوماته “أوليه أوليه” كان رشيد مصمماً على إنه سيكمل تجربته المجنونة فى مزج الراى بالروك .. و مع كل هذا استدعى من ذاكرته وذاكرة شعبه وبلده أغنية قديمة ترددت بين أسرى ثورة المقراني فى الجزائر ضد المحتل الفرنسى الذي قام بنفي ما مجموعه 2500 شاباً جزائرىاً إلى جزيرة كاليدونيا النائية البعيدة عن قارة إفريقيا وفرنسا.
يا المنفى .. هى سحر الكلمات الشعبية البسيطة مع مزيكا وتوزيع غربى ساحر.. ومنها إنطلق رشيد طه في تقديم التراث والتاريخ الفنى الجزائرى فى ألبوماته اللاحقة.
قائد الحفل الغنائي الأشهر
أغنية المنفي شجعته يكرر التجربة مع “يا الرايح” التى كانت سبب شهرته الكبرى في المنطقة العربية وسمعها ملايين البشر حول العالم ولا تزال الأغنية المفضلة لكل مسافر وكل مغترب حتى الآن.
تعود أغنية يا الرايح لصاحبها الموسيقار الجزائري “دحمان الحراشى” عندما كان ينتقد فيها هجرة شباب الجزائر إلى الدولة المحتلة فرنسا.
“شحال شفت البلدان العامرين و البر الخالى ..
شحال ضيعت اوقات و شحال تزيد ما زال تخلى ..
يا الغايب فى بلاد الناس شحال تعيا ما تجرى ..
بيك وعد القدرة ولى زمان و انت ما تدرى”
يا الرايح ظهرت في ألبوم “ديوان” سنة 1998، و هى نفس السنة التي اشترك فيها رشيد طه مع الشاب فوضيل والشاب خالد فى الحفل الغنائي الأشهر على الإطلاق لأكثر من نصف قرن (123 سولاى).
اجتمع الثلاثي في الحفلة تحت اسم “كارت بلانش”، وبحضور بعض العازفين المصريين في الفرقة الموسيقية بتوصية من الشاب خالد، وغنى الثلاثي أكثر من 23 أغنية من التراث الجزائرى منها أغنية المنفى وعبد القادر والرايح وعيشة وديدي وغيرها.
The Clash والاقتباس من رشيد
“رشيد طه” قدم لون موسيقي خاص جسد به حالة شديدة التفرد ولا يمكن أبدًا المرور عليها من دون التوقف و التأمل أمامها.
ووصل الأمر معه لان تقتبس منه فرقة “The Clash” البريطانية الشهيرة، من موسيقاه وكلماته الرائعة، وشكلت أغنية Rock The Casbah المصنفة من قبل صحيفة The Guardian العريقة إنها من افضل 50 أغنية فى القرن العشرين.
غنى رشيد طه تلك الأغنية وصدح بها في كل مسارح العالم بنفس نبرة تحديه في الغناء المعروف بها طوال عمره.
“السلطان قال للبوجى مان .. من الحرقة بركاو واش واش هادا الفوضى ..
“بترول فى الصحرا يسيل.. االشيخ يسوق الكاديلاك”
“راه هابط للسونتر فيل كان دبان و لا حنش .. يستنى فى راس المال”
تهمة ظالمة
تلك “الهيبرة” الواضحة – إذا ما جاز التعبير – وعدم الاتزان المصاحب لظهور رشيد طه على المسرح طول مسيرته الفنية كان الجميع يرجعه لإدمان الكحول و المخدرات.
كلام تردد بشكل واسع ووصل لرشيد نفسه الذي رد بعد 30 سنة، قبل وفاته بفترة قصيرة، وقال إنه مَل من اعتقاد الناس إنه طول الوقت سكران.
الحقيقة المخفية التي نجح في الحفاظ عليها رشيد طه كانت إصابته بمرض نادر جدًا يدعى “متلازمة ارنولد كيارى”، وكان هو سبب ظهوره بشكل غير متزن بصورة دائمة على المسارح وفي معظم خرجاته الإعلامية.
أصيب رشيد بهذا المرض في سن الـ 27، ومن أعراض هذا المرض الغريب التسبب في تشوه خلقى فى المخيخ المسؤول عن توازن الجسم، فضلاً عن إصابة صاحبه باضطرابات عصبية دائمة.
رشيد أجرى أكثر من عملية في ذراعه الأيمن لكن هذا لم ينقذه من الإصابة بالشلل في آخر ايامه، فقد كان بالكاد يستطيع تحريك ذراعه الأيمن.
في شهر سبتمبر 2024، تمر 6 سنوات على وفاة الرايح.. المسافر الذي حمل على عاتقه هموم العباد الغافلين وقرر أن يبقوا عنواناً دائماً لكتاب شغفه وحبه للموسيقى.